{ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } .
أيها الأخوة الفضلاء وأيتها الأخوات الفاضلات ، كثيرا ما يبتلى الواحد منّا في أهله ، فيصاب لديه أعز الناس أو حتى يفقده ، كثيراً ما تجتمع علينا الهموم نتيجة قلة المال أو كثرة الديون ، كثيراً ما يتعرض الواحد منّا لأمراض شديدة وتمر عليه أوقات عصيبة ، فما هو المطلوب منّا وقتها ، وكيف نتغلب على الأزمة ونقاومها في حينها ، كيف نتعلم أن الحياة بحلوها ومرها ، خيرها وشرها قد خلقها الله عز وجل وقدرها ، ولن يغير من مقادير الله شيئاً من الحزن أو البكاء بل ربما يكونان سبباً رئيسيا في هزيمتنا النفسية التي قد تدفعنا إلى ارتكاب حماقات نظن وقتها أننا في منأى عنها أو مستحيل أن نفعلها لكننا تحت وطأة الأزمة نفعلها فمنَّا من يأس من رحمة الله ، ومنَّا من أكتئب في حياته ودنياه ، وبعضنا لا يستحي فيشتكي من الله بدلاً من أن يبث إليه همومه وشكواه .
إننا اليوم نريد أن نتعلم أنا وأنت كيف نقاوم مصائبنا ونتغلب عليها ، ليس هذا فحسب بل وكيف نكتشف السعادة في أزماتنا .
ولا يحق لنا أيها الأحبة بناء على التعريف والمفهوم أن نحتج بالقضاء والقدر على معاصينا أو مصائبنا ، فأنت إذا كنت بين طريقين طريق يؤدي بك إلى السلامة وطريق يؤدي بك إلى الندامة ، وأنت تقف بينهما على سبيل الاختيار والمفاضلة ليس أمامك من يمنعك من سلوك هذا الطريق أو ذاك ، فما بالك تسلك الطريق الخطأ ثم تقول هذا قدري ، أفلا يليق بك أن تسلك طريق الصواب وتقول هذا قدرك أيضاً ، فالإنسان المدخن مثلاً إذا قلت له لا تدخن فيقول لك هذا قدري هذا نصيبي ولو أراد الله عز وجل لي أن أمتنع فسأمتنع ، نقول له يا هذا لماذا لا تمتنع الآن عن التدخين ويكون ذلك هو قدرك أيضاً ، لماذا تحتج بالقدر على خطأك ولا تحتج به في الطاعة .
لذلك قرر أهل السنة في عقيدتهم ومذهبهم أن الإنسان يفعل باختياره ما يريد ولكن إرادته واختياره تابعان لإرادة الله تبارك وتعالى ومشيئته فلن تستطيع أن تختار أو تفعل شيئا يعجز الله عز وجل فكل أفعالك في حدود المسموح بها للبشر ، قال تعالى ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا, لا تنفذون إلا بسلطان )
وبعد أن تعرفنا على معنى القضاء والقدر تعالوا نتعرف أيها الأحبة على مراتبهما عند أهل السنة ، فهي أربعة مراتب :
• المرتبة الأولى :
• المرتبة الثانية : الكتابة وهى أن الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء. وقد جمع الله تعالى بين هاتين المرتبتين في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج :70] فبدأ سبحانه بالعلم وقال إن ذلك في كتاب أي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال رب ماذا اكتب ؟ قال اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) (4).
• المرتبة الثالثة : المشيئة وهي أن الله تبارك وتعالى شاء لكل موجود أو معدوم في السماوات أو في الأرض فما وجد موجود إلا بمشيئة الله تعالى وما عدم معدوم إلا بمشيئة الله تعالى وهذا ظاهر في القرآن الكريم وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله ومشيئته في فعل العباد فقال الله تعالى : {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ التكوير : 28، 29 ] {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [ الأنعام : 112 ] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [ البقرة : 253 ] . فبين الله تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته وأما فعله تعالى فكثير قال تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [ الأنعام :13] وقوله {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [ هود 118] إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله تبارك وتعالى فلا يتم الإيمان بالقدر إلا أن نؤمن بأن مشيئة الله عامة لكل موجود أو معدوم فما من معدوم إلا وقد شاء الله تعالى عدمه وما من موجود إلا وقد شاء الله تعالى وجوده ولا يمكن أن يقع شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله تعالى .
• المرتبة الرابعة : الخلق أي أن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء فما من موجود في السماوات والأرض إلا الله خالقه حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى يقول الله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك : 2] فكل شيء في السماوات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه لا خالق إلا الله تبارك وتعالى .
لكن القدر أيها الأحبة قد انقسمت فيه الأمة الإسلامية إلى ثلاثة أقسام :
قسم : سلب العبد قدرته واختياره وزعموا أن لا يملك شيئاً من قدرته وإراداته وإنما هو مسير لا مخير كالشجرة في مهب الريح ، ولم يفرقوا بين فعل العبد الواقع باختياره وبين فعله الواقع بغير اختياره . ولا شك أن هؤلاء ضالون لأنه مما يعلم بالضرورة من الدين والعقل والعادة أن هناك فرق بين فعل الإنسان الاختياري وبين فعله الإجباري . فالإنسان قد ينزل من السطح بالسلم نزولاً اختيارياً يعرف أنه مختار ولكنه يدفع من أعلى فيسقط هاوياً من السطح لذلك ويعرف الفرق بين الفعلين وأن الثاني إجبار والأول اختيار وكل إنسان يعرف ذلك . وكما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ) . فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله عز وجل مع أن الفعل وقع من المخلوق .
القسم الثاني : غلا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى نفوا أن يكون الله تعالى مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد وزعموا أن العبد مستقل بعمله حتى غلا طائفة منهم فقالوا إن الله تعالى لا يعلم بما يفعله العباد إلا بعد أن يقع منهم وهؤلاء أيضا غلوا وتطرفوا تطرفا عظيما في إثبات قدرة العبد واختياره .
القسم الثالث : وهم الذين آمنوا فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق وهم أهل السنة ، إذ سلكوا في ذلك مسلكاً وسطاً قائماً على الدليل الشرعي وعلى الدليل العقلي وقالوا إن الأفعال التي يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما يجريه الله تبارك وتعالى من فعله في مخلوقاته فهذا لا اختيار لأحد فيه كإنزال المطر وإنبات الزرع والإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله تعالى وهذه بلا شك ليس لأحد فيها اختيار وليس لأحد فيها مشيئة فالمشيئة هنا لله الواحد القهار .
القسم الثاني: ما تفعله الخلائق كلها فهذه الأفعال تكون باختيار فاعليها وإرادتهم لأن الله تعالى جعل ذلك إليهم ، قال الله تعالى : ( لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ) [التكوير :28] ، وقال تعالى: ( مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) [آل عمران: 152] وقال تعالى: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29] .
وبعد أن عرفنا معنى القضاء والقدر ومراتبهما وأهمية إيماننا بهما إيماناً جازماً ، وتعلمنا كيف نؤمن بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح ، فكيف نواجه أقدارنا وأزماتنا .
• فاعلم إذن يا من ابتليت بالمرض أنه لك خير قال صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً : { من يرد الله به خيراً يصب منه }.. فلا تحزن هذا المرض عاقبته الشفاء بإذن الله تعالى قال الله جل وعلا: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين } [الشعراء:80]. بل إن شدة مرضك دلالة على إيمانك الصلب ، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يُبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاءً وإن كان في دينه رقَّة ـ يعني ضعف ـ ابتُلي على قدر دينه وما يزال البلاء ينـزل بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ) .
• أيكون سبب حزنك ذنب اقترفته أو خطيئة ارتكبتها ، لا تيأس وتأمل خطاب مولاك الذي هو أرحم بك من نفسك: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [الزمر:53].
• أيكون سبب حزنك ظلم حلّ بك من ظالم وما أكثر الظالمين في حياتنا ، لا تيأس فقد وعدك الله بالنصر ووعد ظالمك بالخذلان والذل. قال تعالى: (وَاللّهُ لاً يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [آل عمران:140]، وقال تعالى في الحديث القدسي للمظلوم: { وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}.
• أيكون سبب حزنك الفقر والحاجة ، فاصبر وأبشر.. قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [البقرة:155]. وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث علي، رضي الله عنه، أن مكاتبًا جاءه ، فقال: إني عجزت عن كتابتي. فأعني. قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل دينا أداه الله عنك؟ قل: ( اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك )
• أيكون سبب حزنك حرمانك من الولد، فلست أول من يعدم الولد، ولست مسئولا عن خلقه. قال تعالى: { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:50،49]. وأدعو ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة أنك سميع الدعاء ) (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ) ، واسأل نفسك وتحدث مع زوجتك ؟ هل أنت أو هي من شاء العقم؟ أم الله الذي جعلكما بمشيئته كذلك ! وهل لك أن تعترض على حكم الله ومشيئته ! أو هل لزوجتك أو أهلها أن يلومك على ذلك.. إنهن إن فعلن فهن يعترضن على الله لا عليك ويعقبون على لحكم الله لا عليك . بل لو تأملت قليلا وتدبرت القرآن لسكنت نفسك فربما كانت الحكمة من عدم إنجابك أنه بسبب صلاحك لم يرد الله عز وجل أن تعذب بعقوق ولدك أو ظلمه كما في قصة موسى والخضر لما استنكر سيدنا موسى عليه السلام قتله للغلام فقال ( أقتلت نفساً زكية ) رد عليه الخضر فقال (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا )
• أيكون سبب حزنك الفقر وضيق ذات اليد ، لا تحزن ، وقل مع القائل :
وكيـف أخاف الفقر والله رازقي *** ورازق هذا الخلق في العسر واليـســــــــر
تكفل بالأرزاق للخلق كلــــــــهم *** وللوحش في الصحراء والحوت في البحر
لكن الذي ينبغي علينا أن نفعله عند وقع البلاء ، وأول شيء حري بنا أن نفكر فيه أن هذا هو حكم الله عز وجل علي ، فينبغي أن أرضى بما كتبه الله تبارك وتعالى هذا الرضى يعني أنني لا أسخط على ما ابتلاني الله به تضمن حب الله عز وجل ورضاه ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كما روى الترمذي وحسنه الألباني : ( إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ) ، ثم عوّد نفسك أن يكون شعارك عند وقوع البلاء أي بلاء : إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها.. اهتف بهذه الكلمات عند أول صدمة.. تنقلب في حقك البلية.. نعمة.. والمحنة منحة.. والهلكة عطاء وبركة ! فقط تأمل هذه الآية: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة:155-157]. فبقولك إنا لله وإنا إليه راجعون تستحق فورا صلوات الله عز وجل ورحمته ليس هذا فحسب بل يبنى لك بيتاً في الجنة عند قولك الحمد لله في المصيبة والبلاء ، فقد روى الترمذي وحسنه والألباني من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ) استرجع عند الجوع والفقر.. وعند الحاجة والفاقة.. وعند المرض والمصيبة.. وأبشر بالرحمة من الله وحده !
لا تقلق : المريض سيشفى.. والغائب سيعود.. والمحزون سيفرح.. والكرب سيرفع.. والضائقة ستزول.. وهذا وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد.. { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [الشرح:6،5].
{ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }