ويتأكد أننا لا نخلو من المعصية بل هي لا تنفك عنَّا ، فلست أنا وأنت بمعصومين فقد روى الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه وحسنه الألباني

ويتأكدأن طوق الخطايا والسيئات حول أعناقنا يزيد في خناقنا لا مفر منه ، وكيف المفر وقد حكى ربنا جل وعلا عن المجرمين أنهم قالوا : ( يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ).
بعد أن أثقلتنا الذنوب وأعيتنا العيوب وأرهقتنا السيئات ، فقد خاف كثير منَّا من لقاء رب الأرض والسماء ، بل ونخاف أن يفوت الوقت ويدركنا الموت ولم نتخلص منها بعد .
فكم من معصية قد كنا نسيناها والله لم ينساها ؟
وكم من مصيبة كنا قد أخفيناها لكن الله أظهرها وَأَبْدَاهَا ؟
فيا حسرةَ قلوبنا وَقْتَهَا على ما فرطنا في دُنْيَانا مِنْ طَاعَةِ مَوْلانا .
وأصبح لسان حالنا يقول : هل صحيح أن الله عز وجل يقبل العائدين التائبين فيغفر لهم ويسامحهم على ما كان منهم ، نعم إي والله يفعل هذا وليس هذا فحسب بل ويحبهم ويفرح لتوبتهم أيضاً ، يقبلهم لأنه تعالى يقول : (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ، ويحبهم لقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ويفرح لتوبتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك : (للَّهُ أَفْرحُ بتْوبةِ عَبْدِهِ).
أيها الأحبة:
مهما بلغت خطايانا وذنوبنا ثم تبرأنا منها واستغفرنا الله ، غفر الغفور الرحيم لنا ، فقد أخرج مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يقول الله عز وجل : من عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر ، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ، ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة ، ومن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي نهانا أن نيأس من رحمته عز وجلا فقال ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وما أجمل هذا الجواب القرآني العجيب وكأنه كان هناك من يسأل من يغفر الذنوب ؟ فقال تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ) . وقال سبحانه : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) .
ولو تدبرنا كتاب ربنا جل وعلا وتأملنا النصوص القرآنية أيها الأحبة لوجدناها تتنوع في أساليبها حين تتناول موضوع الاستغفار ، فتارة تؤمر به كقوله تبارك تعالى: (وَاستَغفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمُ ) ، وقوله تعالى : (وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ ) ، وتارة تمدح أهله كقوله تعالى : (وَاٌلمُستَغفِرِينَ بِالأَسحَارِ ) ، وقوله تعالى : (وَاٌلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوب إِلاَّ اللهُ ) ، وتارة تذكر أن الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: (وَمَن يَعمَل سُوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستغفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً ).
وفي السنة الصحيحة أيضا أيها الأحبة ما يعطينا هذا الأمل ، بل ويبشرنا أن رحمة الله قريبة جدا فقط علينا أن نكون من أهلها ونختار طريقها ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن عبدا أصاب ذنبا فقال: يا رب إني أذنبت ذنبا فاغفره ، فقال له ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ، ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فقال : يا رب إني أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي ، قال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا آخر فقال يا رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي ، فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، فقال ربه : غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ) ، وأخرج أحمد في مسنده وصححه الألباني من حديث أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفس محمد بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء و الأرض ، ثم استغفرتم الله عز وجل لغفر لكم ) ، وروى الإمام ابن ماجه بإسناد جيد كما قال الحافظ المنذري وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم ) .

أرأيتم أيها الأحبة من قبل مثل هذا الكرم وهذا الجود أريتم من قبل مثل هذه الرحمة ، بل تعالى معي لترى بنفسك رحمته سبحانه وتعالى حين يأتي يوم القيامة يوم الحسرة والندامة وأنت تقف وسط ذنوبك ذليلا كسيرا أمام الله عز وجل والملائكة تعرض عليك ذنوبك الواحدة تلو الأخرى فلا تستطيع أن تنكرها وكيف تنكرها والله عز وجل يقول : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ، فلا تملك وقتها إلا انتظار الحكم بالعذاب لكن رحمة الله عز وجل وسعت كل شيء فيغفرها لك كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها وفي رواية خبئوا كبارها ، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال : عملت يوم كذا وكذا وكذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ؟ فيقول : نعم . لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه حين تعرض عليه . وقتها ستحدث نفسك ماذا ستفعل مع كبار الذنوب إذا كانت الصغائر تعرض الواحدة تلو الأخرى فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة . فيقول من فرحته وكأنه ليس مصدقاً لما يحدث : رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا ) ، يقول أبو ذر وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. أيها الأحبة :
إن قبول الله عز وجل للتوبة يعتبر ميلادا جديدا لصاحبه بل هو عيد له ، فقد صح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة توبة كعب بن مالك كما في الصحيحين الذي يقول بعد أن جاءته البشرى بقبول الله للتوبة : فجئت فجلست بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال : قلت يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك ؟ قال : بل من عند الله ثم تلا عليهم ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) حتى بلغ ( إن الله هو التواب الرحيم )
أيها الأحبة في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ )
فهيا أيها الأحبة ننضم أنا زأنت إلى قوافل العائدين إلى رب العالمين ، هيا نكون من التائبين ، ولا تنظر الليل لتعلن توبتك فلا يقتصر باب التوبة على الليل فقط فإن الله عز وجل إن جئناه ليلا غفر لنا وإن جئناه نهارا غفر لنا أيضا ، فالله عز وجل ليس له حُجَّاب على بابه وليس له وزراء وليس بيننا وبينه وسطاء ، ولن نأخذ المواعيد لكي نقابل رب العبيد ، فقد روى مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ قَيْسٍ الأَشْعَرِيِّ ، رضِي الله عنه ، عن النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : ( إِن الله تعالى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها ) .
ولعلنا الآن نتساءل لدينا ذنوبا كثيرة ومصائب عظيمة ونريد أن نتوب منها ونرجع عنها ، فماذا نفعل ، وماذا نصنع ؟ وكيف نتوب ؟

أيها الأحبة :
لقد صدق سفيان بن عيينة عليه رحمة الله حين قال : التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم ، نعم والله نعمة أتدرون كيف كانت توبة الأمم السابقة لقد كانت تختلف تماما عنَّا ولعلكم تذكرتم الآن كيف كانت توبة بني إسرائيل كانت اقتل أنفسهم ، قال تعالى: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) ، لكننا فقط نقول يا رب اغفر لنا فيغفر سبحانه وتعالى ،
أيها الأحبة :
التوبة لغة وشرعاً : هي الرجوع من الذنب ، العودة إلى الله ، لها شروط لا بد من استيفائها حتى لا تضيع الفرصة من بين أيدينا :
أولاً : ترك الذنب
ثانيا : الندم على ما اقترفته أو فرطت فيه
ثالثاً : والعزيمة على عدم العودة فمتى اجتمعت هذه الثلاث فقد كملت شرائط التوبة. إذا كانت في حق الله تعالى وتزيد شرطاً أخر إذا كان مع العباد بأن ترد له حقه ،
ولكن يحول بيننا وبين التوبة عقبات تواجهنا في طريق التوبة وتمنعنا من العودة .
أن تكون في الغفلة عنها :
قال تعالى : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) وقال سبحانه : ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) ، أليست هذه الكلمات تهز الغافلين هزاً... الحساب يقترب منهم وهم في غفلة . بل إنهم في أموالهم يحصون وفي مناصبهم ينشغلون والناس من حولهم يندهشون لماذا يعطيهم الله عز وجل ويغدق عليهم من نعمه وهم غافلون عنه ، بل إن الرجل نفسه الذي لا تزيده نِعمَ الله عليه إلا إعراضاً وعصياناً وضلالاً ، ولا يزيده حلم الله عليه ، وستر الله عليه إلا تمادياً واستخفافاً وإعراضاً قد اغتر بنعم الله عليه ، ويظن أن الله عز وجل ما أنعم عليه بهذه النعم إلا لأن الله يحبه ، ولولا أنه أهل لهذه النعم ما أنعم الله بها عليه ، مع أنه مقيم على المعاصي ، مقصر في الطاعات ، ونسى هذا المسكين أن هذا استدراج له من رب العالمين ، كما قال سيد النبيين في حديثه الصحيح الذي رواه أحمد وحسنه الحافظ العراقي وصححه الشيخ الألباني من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه : (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد ما يُحِب ُ وهو مقيم على معاصيه : فاعلم فإنما ذلك منه استدراج ) .
أن تعرفها لكن تؤجلها :
إن أنفع طرق التوبة هو الإقلاع فوراً عن المعصية ، فإذا ما أخطأت أو نصحك أحد إخوانك أو بلغك خطئ قد ارتكبته فلا تمني نفسك يوما ما بالتوبة بل تخلص منه فوراً فما يدريك يا مسكين لعل أكفانك قد نسجت في نفس اللحظة التي تقول فيها سوف أتوب ، وتعالوا معي الآن نذهب إلى الكوفة لنسمع قصة توبة زاذان التي حكاها العلامة ابن قدامة في كتابه التوابين وفيه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مر ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة فإذا فتيان فساق قد اجتمعوا يشربون وفيهم مغن يقال له: زاذان يضرب ويغني وكان له صوت حسن فلما سمع ذلك عبد الله قال : ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله ، وجعل الرداء على رأسه ومضى فسمع زاذان قوله فقال: من كان هذا ؟ قالوا : عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأي شيء قال ؟ قالوا : إنه قال : ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى ، فقام وضرب بالعود على الأرض فكسره ثم أسرع فأدركه وبكي بين يدي عبد الله بن مسعود فاعتنقه عبد الله بن مسعود وجعل يبكي كل واحد منهما ثم قال عبد الله: كيف لا أحب من قد أحبه الله عز وجل فتاب إلى الله عز وجل من ذنوبه ، ولازم زاذان عبد الله بن مسعود حتى تعلم منه القرآن وأخذ حظاً من العلم حتى صار إماماً في العلم وروى عن عبد الله بن مسعود وسلمان وغيرهما .
أيتها النفس الغافلة أما آن لك أن تستيقظي من غفلتك ؟ أما آن لك أن تتوبي ؟؟ كم مرة عصيت ربك ولم تستغفريه ...وفرطت بحقوقه ولم تعودي إليه ، ثم إذا جاءت سكرة الموت بالحق قلت ( يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وان كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين)
اعلمي يا نفس أن مآلك إلى تلك الحفرة المظلمة الموحشة ، تجلسين وحدك لا جليس ولا أنيس إلا عملك .. فهل تذكرتي الموت وسكرته ... والقبر وضمته .. والميزان ودقته .. والصراط وزلته .. والنار وعذابها .. والجنة ونعيمها ..فأي حال سيكون حالك ..؟؟ في تلك اللحظات الرهيبة ..موقف الذل والخزي ..يا من عصيت الله ليلا ونهارا سرا وجهارا ...فقول لي بربك كيف ستلقى الله غدا ..؟؟
وحين يسألك عن مالك الذي ضيعته ..وعمرك الذي أسرفت فيه .. وشبابك الذي عصيت ، فهلا تبت إلى الله وعدت إليه ..
فيا نفس كفي عن العصيان واكتسبِ فعلا جميلا لعل الله يرحمني
يا نفس ويحك توبي واعملِ حسنا عسى تجزين بعد الموت بالحسن.
------------------------------------------------------------
هذا المقال ، أعد واُختصر بتصرف من خطبة ألقيتها في مسجد الفاروق عمر ، والله اسأل أن يقبل مني ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق