
يخطئ من يظن أن الثورة هي عصا موسى التي ستلقف ما صنع نظام مبارك من مشكلات جاءت لمصر (المواطن والوطن) ، فالحياة السياسية في مصر حبلى بالمشاكل التي لا تنتهي ، وتولد كل يوم مشكلة جديدة ، وتنمو كل يوم وتكبر مشكلة قديمة ، فالأمان قد افتقد ، والإنتاج قد تعطل ، والمظاهرات الفئوية لا يهدأ لها بال ، وكل يوم يخرج ساحر من جراب مبارك ، من سحرته الذين بدأوا يتساقطون بعد أن أفسدوا حياة المصريين ، سحرة فرعون قضى عليهم موسى عليه السلام لمّا رأوا معجزته فآمنوا برسالته ، فمتى سيفهم الناس في مصر أن مبارك وسحرته لن يقض عليهم إلا الإيمان بالله تعالى ثم تطهير الحياة السياسية من الفاسدين.
وإذا كنّا قد تحدثنا في المقالات السابقة عن ضرورة التغيير باللجوء إلى الله تعالى ، وإحداث ثورة في القلب ، فاليوم نتحدث عن تطهير الحياة السياسية في مصر التي تعني تغيير الحرس القديم في كل الأحزاب والوجوه البالية التي عفا عليها الزمن ، وإنخراط الشرفاء والنزهاء والأكفاء في المعترك السياسي ، وبالطبع لم يعجب هذا الكثيرون واندهشوا حين رأوا إندفاع التيارات الدينية نحو العمل السياسي ، وهي دهشة غير مبررة من وجهة نظري ، لأن كثيراً من الناس كان يظن – وهو خاطئ في ظنه – أن الإسلام يُحرِّم السياسة ، ولعله قد قرأ بطريقة يعوزها الكثير من الفهم والتحليل بعض فتاوى العلماء التي تؤيد هذا الإتجاه المانع للممارسة السياسية ، أو أن هناك من يريد أن يضيق الخناق على التيارات الدينية لكي لا تمارس العمل السياسي حتى تكون دعوتهم فقط منبرية ، وهناك من استغل بسوء قصد هذا التغير الفكري للتيارات الدينية وأخذ يطعن في نزاهتهم وشرفهم .
لكن العمل بالسياسة ليس محرماً لذاته حتى ينفر منه المتدينون أو يشعرون بالعار من أجله ، بل هو في الأصل مباح إلى أن يقترن به ما حرَّم الله تعالى فيُحرم من أجل ذلك ، ولذلك كان التيار السلفي على وجه الخصوص بعيداً عن السياسة ليس كفراً بها ، وإنما لأنه لا يستطيع أن يداهن في دين الله تعالى ، لا يجرؤ على سن تشريعات وقوانين يخالف ما أنزل الله تعالى ، فرأى أن الوقت ليس مناسباً لهذه اللحظة ، وله في من سبقهم عبرة ، فهل استطاع الإخوانيون أن يغيروا كلمة (موافقة) على القوانين التي تخالف دين الله تعالى ، اللهم إلاّ تسجيل الإعتراض في مضبطة الجلسة ، لأجل هذا كان السلفيون يرون أن الوقت لم يحن بعد لخوض مثل هذه التجربة والمشاركة بفعالية في هذا البرلمان ، فلما سنحت الفرصة وتغير المشهد السياسي في مصر ، كان القرار بالمشاركة ، ولما لا !!!
والحق أن العمل بالسياسة ليست حكراً على أحد وليس مفصلاً على مقاس أحد ، ولكن بشرط أن تكون قادراً على تحمل تبعاتها ، ومؤهلاً للإشتغال بها ، فبعض الناس يرغب بها يريد حصانتها من أجل ممارساته غير المشروعة ، وبعض لا يقدر على قيادة بيته ويريد أن يقود أمة.
فالمرشح للمنصب السياسي يجب أن يعلم أنه لن يكون مثل الصحابي الجليل أبي زر الغفاري رضي الله عنه الذي قال : يا رسول الله ، ألا تستعملني ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على منكب أبي ذر ثم قال ، يا أبا ذر : إنك ضعيف ، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) رواه مسلم في صحيحه ، فهل عند مرشحينا هذا الوعي الذاتي لحقيقة النفس ؟ هل عند مرشحينا من يقول لنفسه إنها أمانة وستكون عليّ وبالاً وخزي وندامة لو ما أديت حقها ؟!!
المرشح السياسي ينبغي أن يكون عالماً بنفسه وبنيته التي من أجلها أراد أن يرشح نفسه ، هل هو بارز في مجال معين ويستطيع أن يكون إضافة لها قيمة ، أو يكون رقماً مهماً في معادلة السياسة الصعبة ، بل ينبغي عليه أيضاً أن يستشير المقربين منه من الأهل والجيران والأقارب والأصحاب عن رغبته في خوض الإنتخابات ، فربما كان المقربون منه لا يرونه صالحاً ، فإذا كان هذا المرشح فاقداً لأصوات أقرب كتلة تصويتية له فهل سينجح في إقناع الآخرين بذلك، أشك !!
وعلى صاحب الصوت أن يعلم أن صوته سيكون عنه مسئولاً يوم القيامة ، هل باع صوته لمرشح في مقابل منفعة شخصية أو مقابل مادي أو غير ذلك ، أم أنه قد درس وذاكر كل المرشحين ثم استخار الله تعالى في مرشح معين رجحت كفته عنده لكفاءته وصلاحيته وتميزه عن الأخرين.
ثم على أي أساس سيكون الإختيار وأي معيار ستكون المفاضلة بين المرشحين ، انظر معي ، قالت الفتاة لأبيها وهي أعلم بظروفه وحالته : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } [القصص: 26] ، فمن تأمل القرآن الكريم وجد هاتين الصفتين (القوة والأمانة) بينهما تلازماً ظاهراً ، وسيجد أن أعظم عناصر النجاح والكمال فيمن يؤدي عملاً من الأعمال والتي يجب أن يتحلى بها هي القوة والأمانة .
لقد وصف به الله تعالى جبريل عليه السلام ، وهو الذي اختاره الله تعالى ليبلغ الرسالات إلى الأنبياء في قوله : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (*) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (*) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 19 - 21]
وجاء في قصة سليمان عليه السلام، لما عرض أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ على من كان عنده: { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (*) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل: 38، 39] ، فزكى عفريت الجن نفسه قائلاً : { وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}.
ويوسف عليه السلام لما رأى في رؤياه مصير مصر القادم ، ورأى من نفسه الكفاءة وأنه يستطيع بإذن الله تعالى أن يتجنب المخاطر الإقتصادية والزراعية التي ستصاب بها مصر في هذه السنين العجاف فقال :{ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55] ، (حفيظ) أي لا أضيع ما أوكل إلي من مهام ، و(عليم) بالتدابير اللازمة لتصحيح الأوضاع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق