
وقال الله تعالى: (وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ){النجم : 5 ـ 18}
فالإسراء والمعراج قصة عظيمة جعلها الله عز وجل آية من آياته التي تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وكانت بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام كما هو المتَّفَقُ عليه لدى جمهور العلماء ، وفيها فُرضت الصلاة على المسلمين كما هو معلوم .
الإِسْرَاءُ ، لُغَةً : السير بالشخص ليلاً ، وشَرْعًا: سَيْرُ جِبْرِيلَ بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إلى بيتِ المَقْدِسِ.
والمِعْرَاجُ لُغَةً: الآلَةُ الَّتي يُعْرَجُ بها، وهيَ المِصْعَدُ ، وشَرْعًا:السُّلَّمُ الذي عَرَجَ بهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الأرضِ إلى السماءِ ، ولا صحة لما يردده البعض أنها كانت رحلة منامية ، إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا أنكر كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم سرده لهذه المعجزة ، لولا أنهم يدركون ويفهمون حقيقة ما يحكيه عليه الصلاة والسلام.
وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم عرج به عليه الصلاة والسلام إلى السماء، واتفق العلماء على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة .
قال العلاّمة ابن باز رحمه الله تعالى في مجموع فتاويه : (وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماوات ، وفتحت له أبوابها حتى جاوز السماء السابعة ، فكلمه ربه سبحانه بما أراد ، وفرض عليه الصلوات الخمس ، وكان الله سبحانه فرضها أولا خمسين صلاة ، فلم يزل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يراجعه ويسأله التخفيف ، حتى جعلها خمسا ، فهي خمس في الفرض ، وخمسون في الأجر , لأن الحسنة بعشر أمثالها ، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه).
ومن الأمور المشهورة عند الكثيرين أن الإسراء والمعراج يرتبط إرتباطاً وثيقاً بشهر رجب ، ومن ثم فهو عندهم يُعد موسماً من مواسم الطاعة لشرف المناسبة وأهميتها ، والمفاجأة التي لن يسعد بها هواة الإحتفالات الرسمية وغيرها ، أنه لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره ، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث ، بل أهل العلم مختلفون على شهر الإسراء والمعراج فضلاً عن الإختلاف في ليلتها ويومها ، وكل ما قيل إجتهادات منهم بنوها على حساباتهم ، فمنهم من قال أنها في ربيع الآخر، ومنهم من قال أنها في ربيع الأول، ومنهم من قال أنها في رجب ، ومنهم من قال أنها في رمضان ، ومنهم من قال أنها في شوال، لكن المشهور أنه في رجب ، وليس شهرة الشيء دليل على صحته أو فرضاً لثبوته.
إذ اختلف العلماء في تحديد شهر الإسراء والمعراج على النحو الذي ذكر آنفاً ، وكذلك اختلفوا على تحديد ليلتها ، فمنهم من قال أنها ليلة السبت لسبع عشر من رمضان ، ومنهم من قال أنها ليلة سبع وعشرين من ربيع الاخر، ومنهم من قال أنها ليلة سبع وعشرين من رجب ، بل واختلفوا أيضاً في تحديد الليلة ، فمنهم من ذكر أنها كانت ليلة السبت وهناك من قال ليلة الجمعة وآخرون قالوا ليلة الإثنين ، وكلها كما ترى اجتهادات فردية لا يقم عليها دليل .
والسؤال إذا كان المشهور أن الإسراء والمعراج في رجب ، فما الضرر في التقرب إلى الله تعالى بتخصيصها بالعبادة احتفالاً بها وتمييزاً لها عن غيرها من بقية الأيام ؟ وهل ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ؟
والإجابة كما علمت من المقال السابق أن العبادات توقيفية ، بمعنى لا يجوز لك ولا لغيرك التقرب إلى الله تعالى بطريقة لم يأذن بها أو يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنك بذلك تكون قد أحدثت في دين الله ما ليس منه ، ولا يغرنك جميل ما تظنه أنها عبادة ، بل تذكر – حفظك الله من البدع - قبح ما تصنعه من اتهامك للنبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير في تلبيغ الدين ، لأن الله تعالى يقول : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا ) { المائدة : 3} ، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها ، ولم يخصوها بشيء , ولو كان الاحتفال بها أمرا مشروعا لبينوه للأمة ، إما بالقول وإما بالفعل , ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر ، ولنقله الصحابة رضي الله عنهم إلينا ، مثلما نقلوا إلينا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة حتى تحريك الأصبع في التشهد ، ولم يفرطوا في شيء من الدين ، بل هم السابقون إلى كل خير ، ويتبين لك – رعاك الله – أن هؤلاء الذين يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج إنما هم مبتدعة ، جاؤا بما لم يشرعه الله ، ولم يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما يفعل هؤلاء المخرفون المبتدعة الذين اتخذوا دينهم طقوساً ومناسبات بدعية ، وتركوا السنن وتركوا الشرائع الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو دعوتهم إلى تطبيق سُنة لولوا وهم مدبرون.
وعدم تخصيصها بالعبادة هو الصحيح ، وانظر إلى الفرق بينها وبين ليلة القدر ، التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتحري ليلتها والتعبد فيها ، حيث جعل الله عز وجل الأجر العظيم لمن يعمل فيها في طاعته ، وبين ليلة الإسراء التي يجهل شهر واختلف في يومها ، ولم ينقل فعلاً خاصاً يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته فيها ، ورغم ذلك فليلة الإسراء عظيمة القدر والشأن للنبي صلى الله عليه وسلم ، أما ليلة القدر فظيمة القدر والشأن لأمة النبي صلى الله عليه وسلم كما أجاب بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية لمّا سُئل رحمه الله عن ليلة القدر وليلة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل ؟ فأجاب بأن ليلة الإسراء أفضل في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وليلة القدْر أفضل بالنسبة إلى الأمَّة ، فحظ النبي صلى الله عليه وسلم من ليلة المعراج أكمل من حظِّه من ليلة القدر ، وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج ، وإن كان لهم فيها أعظم حظ ، لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها لمن أسري به صلى الله عليه وسلم .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق